سألت وزير الداخلية اللواء أحمد جمال الدين سؤالا معروفة إجابته مقدما: هل أنت متفائل؟!كنت أبحث عن شيء من الأمل للناس, تبدد سحابات من العتمة والتوتر ونيران الصراعات الممسكة في ثياب المجتمع.
وجاءت إجابة الوزير واقعية جدا دون الوقوع في إغراء التصريحات البراقة: متفائل بشرط أن نبذل جهودا هائلة وجادة..
سألته: تقصد من جهاز الشرطة؟!
أجاب: طبعا لا..من المجتمع كله.. فأمن المجتمع بحالته الراهنة تجاوز دور الشرطة بمفردها إلي كل المجتمع دون اس حوار يكتبه: نبيـل عـمـــر تثناء!
الإجابة معقولة, لا هي مغرقة في تفاؤل كاذب, ولا مستسلمة لواقع متشائم, وقد تكون هذه حالة أغلب المصريين الآن..
وفعلا حين عبرت إلي وزارة الداخلية شعرت بنصف تفاؤل, فقد تخففت أسوار الحماية حولها إلي حد ما, وهي أسوار قد يراها آخرون عازلة لجهاز أمن المجتمع عن المجتمع..
كان موعدي مع اللواء أحمد جمال الدين في العاشرة مساء السبت الماضي, لكن الحوار لم يبدأ قبل الحادية عشرة, إذ كان الرجل مشغولا في غرفة العمليات الخاصة يتابع أحداث العنف حول محطة كهرباء أبو قير, بين الأهالي الذين حاولوا اقتحامها والشرطة التي تدافع عنها..كان رئيس المحطة الجديد قد بدل اتفاقا عقده رئيس مجلس الإدارة القديم علي تعيين عشرة من أولاد الأهالي فورا ثم25 في مرحلة لاحقة, ولأسباب ما لم يعين الرئيس الجديد سوي خمسة من العشرة وخمسة من الخمسة والعشرين, فثار الأهالي وحرقوا مكاتب الموظفين واقتحموا المحطة..
وطول الحوار لم يتوقف تليفونه عن الرنين, مكالمات من رئيس الورزاء, مديري أمن, مسئولين عن عمليات..كلها تدور حول الأمن.
< فسألته: تبدو منظومة الأمن مختلة؟!
>> أجاب بصراحة مفرطة: منظومة الأمن مختلة من فترة طويلة, قبل ثورة يناير, إذ انحرفت وظيفة وزارة الداخلية من سياسة الأمن إلي سياسة التأمين, والتأمين هو حراسة كل شيء, وقد يكون الانحراف راجعا إلي عمليات الإرهاب التي اندلعت في منتصف الثمانينيات واستهدفت رجال الأمن والمنشآت العامة والسياحية ومحال الذهب, فرحنا نحرس كنائس ومقارات دولة وفنادق وبنوكا وعائمات.. وشخصيات عامة..الخ, وهذا وضع أعباء كثيرة علي الشرطة, وطبعا كان علي حساب أمن المجتمع.. وكانت تضمنه شرطة الدرك, دوريات راجلة أو متحركة, دورايات زراعية في الأرياف.. الخ, حسب خطط أمنية.. وكل هذا تهدم وأنهار.. خاصة مع تطور المجتمع وامتداداته العمرانية, مثلا جنوب سيناء بفنادقها لم تكن موجودة بالكامل..
< قلت: هذه توصيف للمشكلة وليس حلا
>> قال: الحل أن نعود إلي الأمن ونترك التأمين للشركات الخاصة..
< قاطعته: يعني يكون عندنا أمن قطاع خاص؟!
>> أجاب: أمن قطاع خاص لا..ولكن تأمين نعم..أي نتوسع في شركات الأمن والحراسة المتخصصة, وظيفتها حراسة المنشآت, وقدمنا مشروع قانون بها, قد يصدر قريبا أو يصدر بعد انتخابات مجلس الشعب القادم..
< سألت: ومن يضمن كفاءتها وقدرتها علي التأمين؟
>> قال: إدارة متفرغة لها من وزارة الداخلية, تتابع عملها, وتتدرب العاملين فيها, وتكشف أمنيا علي المعينين بها.
< سألته: وهل هذا يضبط الانفلات الأمني؟
>> أجاب: اختلف معك في الوصف, الانفلات الأمني معناه أن الأجهزة الأمنية فقدت السيطرة علي الجريمة, وهذا غير صحيح لأن نسبة الجرائم تتراجع عما كانت عليه, لم يعد الناس يقفون أمام بيوتهم وممتلكاتهم لحمايتها, زادت ثقة الناس في السفر ليلا علي الطرق الرئيسية, الآن قد تمضي ساعات قبل أن يصل إلينا بلاغ بحادث كبير, وأحيانا يمضي يوم دون عكننة, لكن حين كنت في الأمن العام كانت تليفوناتي لا تتوقف عن الرنين, وكلها بلاغات ثقيلة عن سرقات بالإكراه وقتل واغتصاب.
< قلت: الناس لا تفهم في الأرقام ونسب الجريمة, ولكنها تحس بالأمن أو لا تحس به؟
قال: فعلا الأمن إحساس.. ولا تنس أن الداخلية فقدت ما يزيد علي60% من إمكاناتها بعد الثورة, مركبات وأقسام شرطة ومعدات, وكنا في حاجة إلي فترة نعوض فيها ما أنهار, وقد حدث بنسبة كبيرة, لكن ما نعانيه في مصر الآن هو انفلات مجتمعي في السلوكيات, حالة فوضي وعدم انضباط عام, وعلاجه بأجهزة الأمن فقط غير ممكن, فالأمن يطارد قلة استثنائية من المجتمع خارجة علي القانون وتنحرف إلي الجريمة سواء كانت كبيرة أوصغيرة, ويستحيل أن يضبط مجتمعا مالت الكثرة فيه إلي المخالفات..هنا العلاج يكمن في النظام العام ككل من قيم وثقافة وسياسة واجتماع واقتصاد.. لكننا بالقطع نطارد الجريمة بعنف.. وسنعيد للناس إحساسهم بالأمن.. سنعيد الدوريات الراكبة والمترجلة والاطياف الأمنية المشكلة بدرجة أكثر حرفية وتخصص وبها ضابط مباحث, تتابع المسجلين خطر والمراقبين لمنع النشاط الإجرامي قبل وقوعه, والأهم أن عسكري الدرك سوف يعود علي هيئة نقطة شرطة صغيرة في المربعات السكنية بالأحياء الشعبية, نقطة قريبة من المواطنين مجهزة بأجهزة اتصالات حديثة, ومعها مركبات, تحل وتربط في المشكلات البسيطة, أما البلاغات الاكبر فتنقلها فورا إلي المركز الرئيسي, حتي يمكن الانتقال السريع إلي مكان الحادث.
ونحن الآن بصدد التعاقد علي عربات مدرعة جديدة قادرة علي دخول المناطق الضيقة نسبيا.
< قلت: هذه أفكار مستقبلية سوف تأخذ وقتا للتنفيذ لكن ماذا عن الفوضي الآن في الشوارع من باعة جائلين ومرور..شارع طلعت حرب أجمل شوارع القاهرة صار سوق كانتو, ميدان رمسيس يسميه الناس الميدان الموبوء؟
>> قال: الشارع فعلا هو بداية إحساس الناس بالأمن, بتطبيق القانون ورجوع الانضباط له, لكن هذه مهمة معقدة, وظيفة الشرطة ليست إزالة الباعة الجائلين من الشوارع, وإنما حماية الأجهزة المحلية التي تنفذ ذلك, دوري هو التأمين.. المرور والدفاع المدني والمرافق مرتبطة بالمحليات, وأنا قلت هذا الكلام في مجلس الوزراء, يعني المحليات تجهز الإمكانات وأنا ادعمها في التنفيذ دعما كاملا..
لكن قضية الباعة الجائلين معقدة, سهل أن نزيلهم من الشوارع, لكن السؤال إلي أين, إلي عالم الجريمة, هم يسترزقون في مجتمع تطحنه البطالة, وأمامنا معضلة, نحن لا نريدهم في الشارع, و في الوقت نفسه لا نريدهم أن يكونوا مشروعا مجرما تحت الطلب, إذن نبحث لهم عن أماكن بديلة.. ونحن علي وشك تنفيذ التخطيط الذي وضعناه..
قاطع رنين التليفون كلام اللواء أحمد جمال الدين..
رد: وكانوا كام واحد؟!..550 شيء طيب برافو, وأخذت أسماءهم.. مطلوب خدمات في الشارع عشان ما يرجعوش تاني..
انتهت المكالمة..
قال وزير الداخلية: مدير أمن السويس, حرك الباعة الجائلين من الشارع الرئيسي في الاربعين إلي شوارع جانبية, وأخذ اسم كل واحد واعطي له رقما, وحين تنتهي المحافظة من إنشاء السوق الجديدة, سيكون لهم الأولوية..
ثم استطرد: هذا حل من الحلول, ونفكر في حلول كثيرة, تضمن رزق هؤلاء وتمنع عودتهم إلي الشوارع الرئيسية, وهذا سيتطلب وقتا إلي حد ما, وسوف نبدأ بتطهير الميادين العامة, ثم الشوارع الرئيسية..وهكذا.
< قلت: فوضي الشوارع ليست باعة جائلين فقط!
>> قال: مؤكد, ميكروباصات مركونة في الممنوع, مقاه منصوبة علي الأرصفة وفي الشوارع, محالات ممتدة خارجه مترين وثلاثة..الخ..كلها مع خطة الباعة الجائلين.
< ضحكت نصف ضحكة قبل أن أقول: والمرور؟!
>> فهم الوزير سبب ضحكتي وابتسم وقال: منظومة جديدة حديثة تماما تعتمد علي التكنولوجيا..لكن الأهم بالنسبة لنا الآن ضبط عاجل وحاسم لمن يسيرون عكس الاتجاه وعرضهم علي النيابة والعقوبة هنا الحبس ولانتهاون فيها, ضبط السيارات أو القيادة دون تراخيص, الركن في غير أماكن الانتظار لتحقيق سيولة معقولة في الشوارع.
ثم سألني: هل تعرف كم موتوسيكلا ضبطناه دون ترخيص في الفترة الأخيرة؟
< قلت: مؤكد رقم كبير, فالموتوسيكلات مثل النمل في شوارع المدن والقري المصرية
>> قال: في القاهرة فقط6 آلاف موتوسيكل, تكاد تغلق أبواب الأقسام أمام الجمهور ولا نجد مكانا لتخزينها, وأصحابها لا يسألون عليها, اشتروها بالتقسيط المريح جدا ودفعوا قسطا فقط..
< سألته: والسلاح الذي يكاد يكون في يد أي شخص يطلبه؟
>> أجاب: كل مشكلاتنا معقدة وليست سهلة, ما حدث في العام ونصف العام الماضي كثير جدا, اسلحة تتدفق من كل حدودنا غربا وشرقا, جنوبا وشمالا, برا وبحرا, والسلاح شخصي ويسهل إخفاؤه عن العيون..
ونحن نتعامل مع السلاح بطريقتين..
أولا: سلاح مع مجرم.. وهو إما بلطجي أو مهرب أو تاجر, والمباحث الجنائية تطارده ولها مصادر معلومات مساعدة.. وهذه عمليات لا تتوقف.
ثانيا: سلاح مع مواطن عادي..وعلينا أن ندفعه للتخلي عنه, فوجود السلاح يسهل عملية استخدامه خاصة عند الغضب الشديد وجرح الكرامة, وعملنا مبادرة لترخيص الأسلحة, من عنده سلاح مهرب يسلمه بلا أي مساءلة, ويحق له أن يرخص سلاحا, وتكون مبررات التراخيص مقبولة, وهي معروفة ولن نتشدد فيها, أما من لا يحوز هذه المبررات فسلم سلاحه في فترة ثلاثة أشهر دون اتهامه بأي جريمة.
رن تليفون المكتب..كان الحوار عن الشخص الذي قبض عليه في عمليات تطهير سيناء الحالية, وضبط معه ترسانة أسلحة, فقال الوزير: لابد أن يسلموا أولا كل الأسلحة الموجودة ثم ننظر ماذا بعد؟!
وانتهت المكالمة..
نظرت إليه دون أن أسأل, فقال: أخطر مايواجه مصر الآن هو عودة الإرهاب والأفكار التكفيرية, وإذا كان العنف يتمحور في سيناء فالأفكار تزحف إلي داخل البلاد.
< قلت: لكن الجريمة عموما في مصر الآن مختلفة.. لقد دخل إلي سوقها منحرفون جدد بلا سوابق..
>> قال: نحن نحدث قاعدة بياناتنا أولا بأول, والأخطر هو مطاردة ذيول العصابات التي يقبض عليها, لأن هذه الذيول تشكل بسرعة شبكة خبيثة جديدة للجريمة.
< قلت: لكن هناك أيضا مع ضباط الشرطة؟
>> قال: إلي حد ما, الضابط الذي خرج من بيته ودافع عن سيتي سنتر علي الكورنيش ضد اقتحام البلطجية, عاد إليه متهما بالقتل العمد..علينا أن نجد حلا لهذه المشكلة!
< قلت: مع ضمان حقوق الإنسان وعدم انتهاك القانون؟
>> قال: نحن ندرس تجربة الولات المتحدة, وسوف نقدم مشروع قانون علي أساسها, هنا في مصر القضاء يبحث مدي تجاوز ضابط الشرطة حقه في الدفاع عن النفس, في الولايات المتحدة استخدام السلاح مرهون بمدي وضع الشخص نفسه محل شبهة استخدام العنف, يعني شرطي المرور حين يوقف سيارة علي الطريق العام, فالسائق يرفع يده فورا, ويضعها بوضوح علي مقود السيارة, ثم ينزل منها مبعدا قدميه عن بعضهما, وواضعا يديه علي سقف السيارة, وأي حركة من السائق خارج هذا النسق تمنح شرطي المرور حق استخدام العنف حسب تقديره للتهديد الذي يتوقعه.
< سألته: ماذا تري بالضبط لكي يعود الأمن كما كان؟
>> قال ببطء ضاغطا علي حروف كلماته: تعاون الناس..دون الناس, لن ننجح مهما بذلنا وتعبنا, ونزاهة الإعلام حتي لا يكرس الصور السلبية فقط ويهدر ما صنعه في مئات القضايا, وموضوعية من منظمات حقوق الإنسان, وتنظر بعين العطف والرعاية لحقوق الضحايا التي تنتهك آدميتهم, كما تهتم بحقوق المتهمين.
< كررت السؤال مرة أخري: هل أنت متفائل؟
>> أجاب: قطعا متفائل..لكن بجهود كبيرة سوف تبذل!